“المدائن” في القرآن والتراث / أحمد مولاي امحمد

(مَدَنَ) بِالْمَكَانِ أَقَامَ بِهِ وَبَابُهُ دَخَلَ وَمِنْهُ (الْمَدِينَةُ) وَجَمْعُهَا (مَدَائِنُ) بِالْهَمْزَةِ وَ (مُدْنٌ) وَ (مُدُنٌ) مُخَفَّفًا وَمُثَقَّلًا، وهكذا فالمدائن مثل المدن هي جمع مدينة، لكنها في الجمع الأول تحمل معان ودلالات وترتبط بأحداث لا تحفز على إعادة استخدامها كثيرا.

وإذا استثنينا “زهرة المدائن” التي هي في تراثنا الأدبي إحدى تسميات سعيد عقل لمدينة القدس المحتلة، والتي تذكرنا بالاحتلال واغتصاب فلسطين ومقدساتنا الإسلامية فيها، فإن أغلب ما ورد في القرآن الكريم والتراث العربي الإسلامي باسم المدائن يحمل دلالات لا تحفز على إعادة التسمية وإحيائها من جديد، حيث مدائن فرعون وحشر السحرة ومدائن صالح “الملعونة” وقومها الذين عقروا الناقة في معصية جريئة لأمر الله لهم حيث أهلكهم بالصيحة، ثم مدائن شعيب المعروفة بمدين والتي عرف أهلها بعبادة الأصنام والتطفيف في الكيل والميزان وعدم الاستقامة، وهو ما لا نرجوه ل(مدائننا) التراثية الجديدة.

وفي مدائن فرعون، التي وردت في القرآن الكريم، قال تعالى: { قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين * يأتوك بكل سحار عليم} ، وقال جل من قائل: ﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِى الْمَدَآئِنِ حـشِرِين(53) إنَّ هَـؤُلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ(54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ(55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَـذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَـهُم مِّن جَنَّـت وَعُيُون(57) وَكُنُوز وَمَقام كَريم (58) كَذَلِكَ وَأَورَثْنَـهَا بَنِى إِسْرءِيلَ(59)﴾

وهناك مدائن صالح، موطن قوم ثمود، التي تعرف قديما بمدينة الحجر  وهي موقع أثري يقع في الحجاز

و ورد ذكر الحجر في القرآن الكريم على أنها موطن قوم ثمود، الذين استجابوا لدعوة نبي الله صالح، ثم ارتدُّوا عن دينهم وعقروا الناقة التي أرسلها الله لهم آية فأهلكهم بالصيحة.

وهناك مدائن شعيب المعروفة ب “مدين” وكان سكانها من قبيلة مدين. و مساكن مدين قريبة من مساكن ثمود في الحجر وقد ورد أن الله تعالى بعث في أهل مدين نبيا منهم هو شعيب عليه السلام  لكي يحضهم على المتاجرة الشريفة فرفضوا أن يسمعوا دعوته بأن يؤمنوا بالله ويتركوا المعاصي. وفي ذلك قال تعالى: “و إِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱرْجُواْ ٱلْيَوْمَ ٱلْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْاْ فِى ٱلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ”

وكان قوم شعيب يعبدون الأصنام ويطففون فى الكيل والميزان، فدعاهم إلى عبادة الله وحده، ونهاهم عن الخيانة وسوء الأخلاق.

ويرى بعض العلماء: أن شعيباً أرسل إلى أمتين: أهل مدين الذين أهلكوا بالصيحة؛ وأصحاب الأيكة الذين أخذهم الله بعذاب يوم الظلة، وأن الله – تعالى – لم يبعث نبياً مرتين سوى شعيبا – عليه السلام -.

ولكن المحققين من العلماء اختاروا أنهما أمة واحدة، فأهل مدين هم أصحاب الأيكة، أخذتهم الرجفة والصيحة وعذاب يوم الظلة – أي السحابة – وأن كل عذاب كان كالمقدمة  للآخر.                                                                  

وهناك «المدائن» وهي عاصمة امبراطورية فارس وكانت مسكن الملوك من الأكاسرة الساسانية وغيرهم، وسماها العرب المدائن لأنها سبع مدائن، بينها وبين بغداد 25 ميلاً. وبها طاق كسرى أو إيوان كسرى “خسرو” وهو قصر من قصور كِسرى أنوشروان الذي تهدم وبقيت آثاره في مدينة المدائن، وهي الآن ضمن الأراضي العراقية.

وللعرب تاريخ كبير مع مدائن كسرى وتسلط الأكاسرة ومن ذلك قتل الملك النعمان بن المنذر تحت أقدام فيلة كسرى في المدائن بعد أن رفض إرسال بناته وأهل بيته إلى كسرى ليصبحن محظيات وجواري لدى إمبراطور فارس.

وفي الشعر العربي يقول الشاعر المبدع نزار قباني: قادم من مدائن الريح وحدي – فاحتضني كالطفل يا قاسيون

وفي هذا البيت ارتبط اسم المدائن بالريح وليس بالمطر والنماء والثقافة والمعرفة مثلا،  وسبقه البحتري حين قال:

حَضَرَتْ رَحليَ الهُمُومُ فَوَجّهْـ

ـتُ إلى أبيَضِ المَدائنِ عُنْسِي

والأبيض هنا ليست من البياض وإنما تعني السيف، وجمعه بيض. وقد جاء البحتري ليمدح، فلَقِي النُّكران والجفاء. وهنا ما كان عليه إلا أن يغادر. وبالتالي فهذه ردة فعل شاعر لقي الجفاء والنكران.

ولا يوجد في تاريخنا وتراثنا العربي الإسلامي ما يدفعنا إلى تغيير تسمية “مهرجان المدن القديمة” إلى تسمية “مهرجان مدائن التراث”، وإذا كان لا بد لكل أمة لاحقة أن “تلعن” الأمة السابقة، وتسفه أحلامها وما أنجزته، فإنه كان يكفي ان تحمل اسم “مهرجان مدن التراث” وليس “مدائن”، وذلك أضعف الإيمان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *